كانت المحاضرة التي دُعيت لإلقائها في أحد المراكز الإسلامية، تدور حول "أزمة الإعلام الإسلامي"، والبحث عن جذور المسألة، وكانت هذه المسألة من المسائل الملحة التي فرضت نفسها في الحوارات المكثفة مع الإسلاميين المقيمين في بريطانيا، وذلك بفعل الانفتاح الكبير الذي قابله الإسلاميون هناك على الإعلام العربي المهاجر والمحلي ـ من خلال القنوات الفضائية ـ والدولي، وكان هناك قلق كبير من غياب أي معايير للحديث أو المتحدثين أو الضيوف في هذه الفضائيات، كما كانت هناك علامات استفهام كبيرة حول حرص فضائيات أوروبية كبيرة على استضافة شخصيات مثيرة، وليس لها قبول في العالم الإسلامي نظراً لغلوّها وتطرفها، أو استخدامها أساليب وأفكاراً لا تعطي أي صورة إيجابية عن الإسلام والمسلمين، وكأن المقصود من إبراز هذه النماذج هو الإساءة إلى الصورة الإسلامية في المخيل الغربي، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل شخصيات علمية رفيعة، ولها قبول واسع في العالم الإسلامي، ومعروفة بخطابها الوسطي والرشيد، من مثل الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ سلمان العودة، والشيخ ناصر العمر وغيرهم كثير، وإن كانت هذه القيادات الدعوية قد نجحت في تحقيق تواصل جيد من خلال حضورها في العديد من القنوات الفضائية العربية، وكذلك إنشاء مواقع الكترونية نشطة ومؤثرة في أوساط عديدة، وكنت مضطراً إلى تذكير الشباب بأن جزءاً مهماً من حيوية أي جهاز إعلامي، يرتبط بالإثارة، بقطع النظر عن الهدف من الإثارة، على الرغم من أني لا أنفي النوايا غير الحسنة في الإعلام الأوروبي بشكل عام تجاه الإسلام، ولكن قسماً كبيراً من المشكلة تأتي من طبيعة الإعلام وفنونه؛ لأن أي جهاز إعلامي، مقروء أو مسموع أو مشاهد، فهو يبحث عن أكبر قدر ممكن من الجاذبية لدى الجمهور، والغالبية العظمى من هذه المنابر تبحث عن الإثارة بأي ثمن، بعيداً عن أية معايير قيمية أو دينية، وخاصة في العالم الغربي، ولكن مشكلة الإسلاميين أنهم درجوا على حصر أنفسهم في زوايا المجلات الدينية، وهي في الغالب تكون مجلات فكرية أو دعوية، تعتمد على المقالات الرصينة، والأبحاث والدراسات، ونحو ذلك ثم يتوقفون عند ذلك، دون البحث عن آليات أخرى وخبرات أخرى؛ لأن هذه النوعية من المجلات التي تهتم ببناء الأفكار والقيم على الرغم من خطورتها وأهميتها الكبيرة، إلاّ أنها لا تكفي وحدها لكي تعبر عن مفهوم الإعلام الشامل، ولقد ظل هذا هو حال الفعل الإسلامي في مجال الصحافة على مدار ثلاثة أرباع القرن الماضي كله، ومن يراجع الصحف أو المجلات التي كانت محسوبة على التيار الإسلامي طوال هذه المدة يتأكد بوضوح من هذه الملاحظة، ولم يبدأ الإسلاميون في الانتباه إلى الصحافة كعلم وفن وسلطة حقيقية في المجتمع المعاصر إلاً مؤخراً، وبما لا يزيد على عقدين من الزمان، وفي مصر على سبيل المثال، ولها سبق كبير في مجال الصحافة تاريخياً، عندما تبحث في كشوف أعضاء نقابة الصحافيين من المنتسبين إلى التيار الإسلامي، ستجد أن متوسط أعمارهم يدور حول سن الثلاثين، قبلها بقليل أو بعدها بقليل، ونادراً ما تجد منهم من هو أكبر من ذلك سناً، وأنا على ثقة من أن نفس الملاحظة سيجدها الباحث في البلدان العربية الأخرى، وهذا ما يؤكد حداثة عهد الإسلاميين بالصحافة، فضلاً عن المنابر الإعلامية الأخرى، وهذا ما عكس نفسه على طريقة تعاطي الإسلاميين مع الصحافة، والإعلام المعاصر، وبالتالي خسر الإسلاميون كثيراً من المعارك السابقة بسبب إهمالهم لهذه "السلطة" الجبّارة، والنظر إليها باستخفاف، بل كان بعضهم يملؤه تصور ساذج بأن الصحافة إنما هي نافذة للماسونية العالمية، وما أشبه ذلك من الخرافات، والمثير للدهشة أن الشباب الجديد من الإسلاميين عندما اندفعوا بقوة إلى العمل الصحفي نجدهم قد تميزوا وبرعوا وتفوّقوا كثيراً، بل إن معظم المعارك الصحفية المهمة، والقضايا الملتهبة التي تجتذب الرأي العام العربي الآن، إنما قام أو يقوم بها صحفيون إسلاميون، وهذا مما يدلنا على حجم الطاقات المغيبة، أو التي غُيّبت وأُهدرت على مدار السنين، وهذا أيضاً ما يعطينا مؤشراً إيجابياً على أن الفرصة ما زالت مواتية للمواهب الإسلامية في مجال الإعلام المعاصر لكي تتبوّأ مكانها الذي يليق بها، وأن تمارس دورها التنويري الحقيقي في الواقع العربي الإسلامي الراهن، ولا شك في أن انتشار الثقافة الإعلامية الجديدة بين الإسلاميين، سواء منهم من يشتغل بالإعلام أو من هو مجرد متلقٍّ له، كفيلة بتصحيح الكثير من المواقف الخاطئة، وكفيلة بقطع الطريق على محاولات الإساءة إلى الإسلام ودعاته والحركات القائمة بنصرته، ولعل الصدمة التي عاشها كثير من الإسلاميين، داخل العالم الإسلامي أو في المهجر، من جرّاء انفتاح طوفان الإعلام العالمي عليهم مؤخراً، لعلها تكون موقظاً لوعي غاب كثيراً، وطاقات طالما تعطّلت بدون مسوّغ معقول